مقال فلسفي استقصاء بالوضع حول مشكلة اللغة و الفكر
يقول هيجل : إننا لا نفكر إلا داخل الكلمات
دافع عن صحة الأطروحة
طرح المشكلة :
يعرف الانسان بأنه كائن اجتماعي مما يفرض عليه التواصل و التفاهم مع أفراد مجتمعه من خلال نقل و تبادل الافكار ولا يتم ذلك إلا من خلال اللغة التي تعرف بأنها نسق من الرموز و الاشارات و الاصوات التي تصلح كوسيلة للتواصل فاللغة هي "ما يعبر به كل قوم عن أغراضهم"و هذا يعني أن اللغة تؤدي دور الترجمان للفكر من حيث أن الفكر هو جملة النشاط الذهني الذي يتميز به العقل و هذه العلاقة بين اللغة و الفكر أدت إلى مشكلة التناسب أو عدم التناسب بين ما يجول في الذهن من أفكار و بين ما نملكه من ألفاظ حيث شاع لدى بعض اللغويين و الفلاسفة أن الفكر يسبق اللغة و هو أوسع منها من حيث أن الانسان يفكر أولا ثم يبحث في اللغة عن ترجمة لأفكاره و لكن النقيض من ذللك أثبتت بعض الدراسات أن الطفل يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة و بالتالي لا يمكن التفكير في أشياء لا معنى لها و هذا يعني أن اللغة و الفكر متزامنان و إن كنا بصدد الدفاع عن هذه الأطروحة المشروعة و الصحيحة القائلة "إننا لا نفكر الا داخل الكلمات " فماهي يا ترى الحجج و البراهين التي تثبت صدقها و مشروعيتها و الأخذ بها
عرض منطق الاطروحة :
العلاقة بين اللغة و الفكر علاقة إتصال "الإتجاه الأحادي" يذهب انصار الاتجاه الأحادي إلى أنه لا و جود لفكر دون لغة فهما مترابطان ومتلازمان أي أن العلاقة بينهما علاقة اتصال ومن أنصار هذا الإتجاه نجد العديد من الفلاسفة و علماء اللغة ومنهم دي سوسير، ميرلوبنتي، هاميلتون، هيغل، وأخرون.....حيث يرى عالم اللسانيات السوسري فرناند دي سوسير أن العـلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة تلاحم و تداخل و يشبه هذه العلاقة بورقة العملة النقدية، بحيث لا يمكن تمزيق الوجه الأول دون أن يتمزق الوجه الثاني ليس الفكر والكلام موضوعين منفصلين، ذلك أن كل منهما محتوى في الآخر، فالعلاقة بينهما هي علاقة وثيقة بحيث لا يمكن الحديث عن أسبقية أحدهما عن الآخر، فهما ينبثقان في آن واحد وهذا ما يذهب إليه الفيلسوف الفرنسي مرلوبوتي الذي يرى أن علاقة اللغة و الفكر علاقة إتصال، فلا وجود لفكر قبل اللغة، إنهما متزامنان ففي الوقت الذي يصنع فيه الفكر اللغة فإن اللغة تحتوي معاني ذلك الفكر و ينتقد الموقف الديكارتي الذي يفصل الفكر عن اللغة، فاللغة في نظره لا يمكن أن تكون أداة للتعبير عن الفكر و ما يدل على ذلك هو أن التفكير في صمت هو في الواقع ضجيج من الكلمات، فالتفكير الداخلي هو لغة داخلية يقول:" إن الفكر لا يوجد خارج العالم وبمعزل عن الكلمات... و الأفكار التي عبرنا عنها من قبل هي التي نستدعيها" و الرأي نفسه نجده عند الفيلسوف الانجليزي هاملتون الذي يؤكد على العلاقة الوطيدة بين اللغة و الفكر حيث يقول : أن المعاني شبيهة بشرار النار لا تومض إلا لتغيب ولا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ " فاللغة هي الوعاء الذي تصب فيه الأفكا ر وعليه فهناك وحدة عضوية بين اللغة و الفكر حيث يقول أيضا : "فالألفاظ حصون المعاني" وهذا ما يؤكده أيضا الفيلسوف الألماني هيغل الذي يرى أن الإنسان يفكر داخل اللغة لا خارجها وأن فعل التفكير لا يتحقق في استقلال عن فعل الكلام أو تركيب الجمل. ويستدل على ذلك بقوله إن الفكرة لا تكتسب وجودها الفعلي إلا عندما تصاغ صياغة لغوية. إن الصياغة اللغوية هي ما يجعل الفكرة تتحقق بالفعل، وبذلك نتمكن من الوعي بها،حيث يقول"إننا نفكر داخل كلمات" ويقول أيضا:" اللغة تعطي الفكر وجوده الأسمى"
عرض منطق الخصوم و نقدهم :
يرى الاتجاه الثنائي أن اللغة و الفكر منفصلان بمعنى أن الفكر سابق على اللغة وهو أوسع منها حيث يؤكد الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت أن الفكر من طبيعة روحية و يمثل الجوهر في الانسان و هو المسؤول عن وجود الافكار أما اللغة فهي مجرد عرض أي شيء ثانوي لأنها من طبيعة مادية لا دور لها سوى التعبير عن الافكار و حسب و في نفس السياق يكشف الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عن العلاقة المزدوجة للفكر و اللغة من خلال عجز اللغة عن نقل الحالات النفسية من مشاعر و تجارب وجدانية شعورية باعتبارها غير قابلة للتجزئة فهي عبارة عن تيار متدفق مستمر يتطور بشكل أسرع من الالفاظ فيكون الفكر في هذه الحالة متقدما على اللغة يقول " إن اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر" إن اللغة- حسب هذا الاتجاه - مجرد أداة و هي عاجزة عن التعبير عن الذات حيث أن مشاعر الانسان نابضة بالحيوية و لا يوجد في اللغة ما يمكن ان ينقل هذه المشاعر ليحس بها الآخرون كما نحسها نحن فاللغة لا تنقل من المشاعر إلا جانبها العام مما يجعلها عائقا أمام وعي الانسان بذاته لذا يقول الشاعر الفرنسي فاليري" أجمل الافكار هي تلك التي لا نستطيع التعبير عنها " إن اللغة محدودة في حين ان المعاني ممتدة وواسعة فالفكر اغنى من اللفظ لأن اللفظ يؤدي إلى قتل المعنى و قولبته و ما يجول في خاطر الانسان من افكار لا يجد دائما اللغة المناسبة للتعبير عنها
نقدهم :
لكن الانسان يشعر انه يفكر و يتكلم في آن واحد و الفكر دون لغة هو مجرد نشاط أخرس فلو كانت الافكار مستقلة عن الالفاظ لكانت غامضة و مبهمة ثم ان عدم القدرة على التعبير ليست راجعة لوجود عجز في اللغة بل هي راجعة إما لعدم وجود أفكار واضحة أصلا أو لعدم كفاية الرصيد اللغوي فالقصور لا يكون في اللغة بل في الفرد الذي لا يملك ثروة لغوية كافية تسمح له بتبليغ المعاني فمن يعتقد ان في ذهنه افكارا عجزت اللغة عن توصيلها فهو واهم لان الفكرة لا توجد دون عبارة لذا فإن الشيء بالنسبة للطفل يبقى غير معروف حتى تتم تسميته فالإسم هو ماهية الشيء و معناه و هذا ما يثبته الواقع
الدفاع عن الاطروحة بحجج شخصية :
لقد أثبت علم النفس أنه كلما اتسعت ثروة الفرد اللغوية زادت قدرته على التفكير و التعبير و بذلك ينمو الذكاء و تزداد نسبته فاللغة مساعدة لنمو ذكاء الطفل و بها يتعلم و يبتكر الافكار لقد عبر الفيلسوف الانجليزي جون لوك عن الصلة بين التفكير و اللغة بقوله " ان الكلمات انما هي علامات حسية تدل على الافكار الموجودة في الذهن " فاللغة هي التمثيل الطبيعي و الخارجي لحالة الفكر أي ان اللغة عبارة عن سلسلة من الكلمات تعبر عن تفكير كامل و يتأكد هذا المعنى مع المفكر العربي زكي نجيب محمود حيث يقول " الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمزي لا أكثر ولا أقل" حيث يرى أنه لا يوجد فكرة لا يمكن التعبير عنها " فالعبارة الملتوية الغامضة هي في الاساس لا شيء و لا تصبح فكرة إلا إذا أعيد ترتيبها بحيث ترسم لنا صورة مستقيمة" و هذا ما يجعل منها عبارة سليمة أو فكرة سليمة فهما شيء واحد و يؤكد الفيلسوف الامريكي جون ديوي أن الفكر مستحيل دون لغة فاللغة تتضمن أكثر من الكلام الشفهي و المكتوب بكثير فالإيماءات و الصور المتخيلة و أي شيء يتم استخدامه بطريقة واعية هو لغة فاللغة مرتبطة بالوعي و الوعي هو أساس التفكير إن التجربة الواقعية تثبت أن الانسان لا يستطيع التفكير في أشياء لا وجود لها أو في اشياء دون مسميات لان الفكر لا يتحقق وجوده إلا بواسطة الكلمات و يؤكد عالم النفس الامريكي جون واطسن أنه لا يوجد فكر مستقل قائم بذاته بمعزل عن اللغة و كذلك بالمقابل يستحيل وجود لغة مجردة من الفكر حتى وإن كانت لغة صامتة كانت انتقال الافكار من شخص لآخر و من جيل لجيل لا يتم إلا من خلال اللغة فهي حافظة للتراث الإنساني من الزوال و يبين الفيلسوف الروسي هيردر أن الفكر يعتمد بشكل جوهري على اللغة و هي التي تشكل حدوده فالانسان لا يمكنه التفكير دون قدرته على التعبير اللغوي
حل المشكلة :
انطلاقا من هذا التحليل نستنتج أن اللغة و الفكر متصلان فلا فكر دون لغة و لا لغة دون فكر و قد عبر عن هذا الطرح الفيلسوف الفرنسي دولاكروا في قوله " إن الفكر يصنع اللغة و هي تصنعه " فكل واحد منهما يمنح الآخر وجوده فالانسان يتصور المعاني عن طريق اللغة و اللغة تعبر عن تلك المعاني إن العلاقة بين اللغة و الفكر تشبه وجهي العملة النقدية بحيث لا تصلح إذا فسد أحد الوجهين إن من كان محروما من اللغة كان تفكيره محدودا فيكون الفكر و اللغة مظهرين لعملية نفسية واحدة و تكون بالتالي الاطروحة صحيحة قابلة للدفاع عنها فما على الانسان إلا أن يعتني بلغته لأن اللغة تعبير فعلي عن الفكر فنحن اذن لا نفكر إلا داخل الكلمات
كم علامتها
ردحذفشكرا وكم علامتها
ردحذفاريد الاجابة من فضلك
حذف