طرح المشكلة : ينطلق جل الفلاسفة والمفكرون من دراسة المعرفة وبحثها من ناحية الإمكان والوجود، ومن ناحية الطرق التي تؤدي اليها، وبما ان المعرفة تخص الانسان دون سواه. انطلق الفلاسفة في بحثها علّهم يجدون سبيلا الى منتهاها. فكان سؤالهم كالتالي: هل المعرفة عقلية وبالتالي مطلقة؟ ام ان معيارها نفعي وبالتالي هي نسبية؟ بمعنى اخر هل معيار المعرفة نظري تجريدي ، ام ان معيارها عملي نفعي؟
الموقف الأول : " المعرفة معيارها عملي نفعي " يرى انصار هذا الموقف ان أفعال الإنسان لا تكون خيرا أو شرا إلا إذا حققت أو توقع من ورائها نفعا ، فإن أدت إلى ضرر أو عطلت نفعا كانت شرا. هذا هو رأي مذهب المنفعة في الأخلاق. فالبراغماتية فلسفة عملية لها جذور ترجع إلى الفلسفة اليونانية بدأت مع ارستيب القورينائي حيث مصدر القيم الأخلاقية يكون بوحي من اللذة والألم فاللذة هي الخير الأعظم يرى الفيلسوف اليوناني ابيقور بان اللذة هي الخير الاسمي ، لكن دون الإفراط في اللذات ، بمعنى ان نتبع اللذة التي لا يعقبها الم ، بل ويطلب الألم إذا كان يحقق له لذة أعظم منه. وقد نحتها أصحابها من الكلمة اليونانية التي تعني العمل النافع أو المزاولة المجدية، ويصبح المقصود منها هو المذهب العملي أو المذهب النفعي. ثم عادت إلى الظهور منبثقة من الروح المادية للقرن العشرين ومرتبطة بتطور مناهج البحث العلمية والاتجاهات الواقعية المعاصرة مع الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنتام. لكن المؤسس الحقيقي للبراغماتية هو الفيلسوف الأمريكي بيرس الذي، يرى أن كل فكرة لا بد أن تكون تمهيدا لعمل ما ثم جاء بعده "وليام جيمس " ليقيم بناء المذهب ويؤكد أن العمل والمنفعة هما مقياس صحة الفكرة ودليل صدقها، وظهر بعد ذلك " جون ديوي " ليتم بناء المذهب و يقرر أن العقل هو أداة العمل ووسيلة المنفعة. بالإضافة الى بيرس تشارلز سانتياغو ساندرس وفي نفس الاتجاه يرفض وليام جيمس مناقشة القضايا الميتافزيقية مثل : هل العالم واحدأم كثير ؟ وهل هو مادي أم روحي ؟ وهل الإنسان حر أم مقيد ؟ وغير ذلك من القضايا الغيبية المشابهة التي لا تؤدي إلى نتائج نافعة ، لذلك فهي ليست صحيحة ، وهكذا انتهى وليام جيمس إلى تأكيد أن الحقيقة هي كل ما يقودنا إلى النجاح في الحياة يكون الفعل خير إذا كانت نتيجة لذة أو منفعة ويمكن التعرف على درجة خيرية الأفعال عن طريق ما يعرف بحساب اللذات الذي وضعه بنتام وهو مجموعة من المقاييس و هي : الشدة ، المدة ، اليقين ، القرب ، الامتداد ، الخصب والنقاء. هذه المقاييس وان كانت تخص الأفراد فإنها في نظر بنتام لا تلغي تماما المنفعة العامة ، حتى لو كان أساسها المنفعة الشخصية ، لأن اللذة قيمتها في الامتداد يقول : " إن الفضيلة الاجتماعية وقوامها أن يخدم الإنسان مصلحة غيره ما هي إلا تضحية المرء بلذته الخاصة ابتغاء الحصول على قدر من اللذة أعظم " إن بنتام غير مبدأ اللذة بمبدأ المنفعة فقط ، وهو الأمر الذي عارضه الفيلسوف الإنجليزي جون ستوارت مل ، فأساس القيمة الأخلاقية عنده ليس هو اللذة. إن اللذة عنده تثير الاشمئزاز ، وإذا كان بنتام يجعل من المنفعة الخاصة هي أساس المنفعة ، فالأمر على نقيض ذلك عند مل ، فالمنفعة ينبغي أن تشمل اكبر عدد من الناس
النقد و المناقشة : قد يكون من مزايا البراغماتية نظرتها الواقعية لان الفلسفة هي موقف من اجل العمل وليست أفكارا اكاديمية، لكن إذا أخذنا المنفعة سواء كانت بمعنى اللذة الجسمية أو اللذة العقلية أو كانت بمعنى خاص بأفراد أو منفعة عامة ، ففي كل هذه الحالات نكون قد اهملنا العقل ومن الصعوبة أيضا أن يتفق جميع الناس على منفعة معينة، لأنه أيّ منفعة قد تضر بالآخرين. بالإضافة إلى اختلاف المجتمعات فيما هو نافع ، وان اتفقوا فلا يتجاوز اتفاقهم وجود الخير العام ، ولكن أي خير وما المقصود به ؟ وكيف يمكن تقييمه ؟ ام البراغماتية انعكاس للفلسفة الامريكية تقوم بتمجيد الفرد وتغليب مصلحته الشخصية
الموقف الثاني : "ان المعرفة أساسها التفكير العميق "إن الوجوديين لا يضيعون وقتا طويلا في مناقشة مشكلة المعرفة في صورتها التقليدية ، ولا يرجع ذلك كما ظن البعض فيما يبدو إلى أن الوجوديين جميعا يرفضون النزعة العقلية وأنهم ذوي اتجاهات عاطفية تهتم بالوجدان والاندفاع ، ومن ثم لا تبالي بالمعرفة أو الفهم الدقيق أو الحقيقة. فلم يكن الوجوديون قط على هذا النحو من الإهمال ونفاذ الصبر بالنسبة للمشكلة الابستمولوجية بل إن نفاذ صبرهم يرجع إلى اقتناعهم بان الطريقة المألوفة في تناول مشكلة المعرفة هي طريقة خاطئة تثير مشكلة مزيفة. ويكمن الخطأ في أن يبدأ المرء بكيانين يفترض أنهما منفصلان تماما ، ثم يقوم بمحاولة الجمع بينهما. إن أول خطوة خطاها ديكارت في استدلاله، قد ننظر إليها عادة على أنها أقوى الحجج في الفلسفة، و هي قوله : " انا أفكر إذن أنا موجود " فارتيابي وشكي العميق هو نفسه ضرب من التفكير يبرهن على وجودي. غير أن الفيلسوف الوجودي ينتقد هذه الحجة الكلاسيكية ويصفها بأنها مجردة، فانا أولا وقبل كل شيء موجود ، والوجود هو شيء أوسع بكثير من التفكير و اسبق منه فيميل الفيلسوف الوجودي إذن إلى قلب هذه الحجة رأسا على عقب بحيث يقول : "أنا موجود إذن أنا مفكر ". ولم يكن كيركجارد يستطيع أن يتصور حقيقة تظل خارجة عنه، حقيقة لا تكون إلا مشاهدة لروحه. من كتاب ـ الوجودية ـ تأليف جون ماكوري ـ سلسلة عالم المعرفة كما ان الحرية تعتبر من أهم القضايا التي تبحثها الفلسفة الوجودية، وتهتم بها. وهي عند الوجوديين عامةً إنها تعتبر الوجود الإنساني نفسه. وهي ضرورة، لكي يحقق الإنسان وجوده. وهي من أهم المرتكزات عند سارتر فهو يرى ان الإنسان حر، والإنسان بما هو إنسان لا طبيعة له ، وليست له ماهية محددة ، بل أن ماهيته هي الحرية نفسها. فالموجود الحر فقط هو الذي يختار. وبدون هذه الحرية ينعدم معنى الاختيار. ان الحرية عند سارتر ليست صفة مضافة أو خاصية من خصائص طبيعة الإنسان ، إنها تماماً نسيج وجوده (الإنسان = الحرية )
النقد و المناقشة : لكن الا يمكن ان نلاحظ بأن هذه الفلسفة تمتاز بالفردانية ؟ ما يعاب على الفلسفة الوجودية انها فلسفة متطرفة تجعل الانسان منغلقا على ذاته، وبالتالي فهي ترفض معنى الإنسانية باعتبار انها تنظر الى جل الحقائق نظرة فردية تنطلق من ذات الانسان ، وبهذا اتُهمت بانها فلسفة تشاؤمية انهزامية تتشدد في القول بعدم وجود ماهية للإنسان سابقة على وجوده. كما انها تنظر الى الانسان نظرة جبرية ، بحيث أن الانسان مقذوف في هذا الوجود رغما عنه
التركيب : وعموما نلخص إلى القول : بأنه يجب الاخذ بالفلسفتين معا لانهما وضعا خدمة لمقاصد معينة اذ يجب الاخذ بالفلسفة العملية بغية استثمارها في الحياة اليومية ، كما يمكن الاخذ بالفلسفة التي ترجع الانسان الى باطنه وتستوقفه على اعماقه ليعيش كل ما يخالجه من حالات نفسية ليختبر مدى تمكنه من اثبات ذاته وحريته
حل المشكلة : وفي الأخير وختاما لهذا المقال يمكن ان نقول ان الاختلاف بين المذاهب مهما تكن اشكاله ،لا يعني بالضرورة عدم اتفاقها وعدم تقرب بعضها الى بعض. فهو لم يعد في مفهومه حاجز يمنع تقدير التوجهات التي اختارها أصحابها ، ومن هذا نستنتج ان المعرفة مصدرها العمل النافع وتأمل العالم الداخلي للإنسان في نفس الوقت لان هناك تكامل بين المذهبين السابقين البراغماتي والوجودي