" مقالة جدلية حول العلوم الإنسانية
نص السؤال : هل يمكن دراسة الظاهرة النفسية دراسة علمية موضوعية ؟ "
طرح المشكلة :
إن أبسط تعريف لعلم النفس أنه العلم الذي يدرس الإنسان في بعده النفسي و كيف يفكر و كيف يتم إحساسه بالأشياء وما هي طبيعة العواطف التي تثور في نفسه وكيف تنطلق ذكرياته ومعنى ذلك أن الحادث النفسي يشكل موضوعا خصبا لعلم النفس . ونظرا لما تتميز به الظاهرة النفسية من خصائص يميزها عن غيرها من الظواهر خاصة الفيزيائية منها . نشأ عن ذلك اختلاف بين الفلاسفة والعلماء في نظرتهم إلى موضوع هذه الظاهرة و إمكانية دراستها تجريبيا وظهر بذلك اتجاهان أحدهما ينفي إمكانية الدراسة التجريبية للحادث النفسي والآخر يؤكد إمكانية دراسته علميا بواسطة المنهج الاستقرائي. من هنا حق لنا أن نتساءل : هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي في مجال الدراسات النفسية ؟ وهل يصلح الحادث النفسي لأن يكون موضوعا للمعرفة العلمية؟
الموقف الأول :
يرى عدد من المفكرين والفلاسفة والعلماء أمثال "وليام جيمس" و" ج.س.مل" أنه لا يمكن أن تكون الحوادث النفسية موضوعا للدراسة العلمية التجريبية. ويؤسس أنصار هذا الطرح موقفهم على مسلمة مفادها : أن الدراسة العلمية التجريبية للظواهر ترتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة العلاقة القائمة بين الذات الدارسة وموضوع الدراسة. فإذا كانت هذه العلاقة منفصلة حيث تكون الذات مستقلة عن الموضوع، كما هو الحال في مجال العلوم الطبيعية تكون الموضوعية ممكنة. أما إذا كانت العلاقة متصلة حيث تكون الذات مندمجة في الموضوع وجزء منه، كما هو الحال في مجال الدراسات النفسية يكون الموضوعية متعذرة. ولقد دعموا موقفهم أيضا بأدلة وحجج منها: أن الحادثة النفسية لا تشبه الأشياء المادية (الظواهر الطبيعية)، فهي تتميز بجملة من الخصائص تحول دون الدراسة العلمية لهذه الظاهرة، وتجعل من الوقوف على القوانين التي تحدد صورتها أمرا مستحيلا. ولعل أبرز هذه الخصائص هي أن الحادثة النفسية موضوع لا يعرف السكون فهي متغيرة، ولا تشغل حيزا مكانيا معينا كما هو الشأن في الظواهر الطبيعية، فلا مكان للشعور أو الانتباه، ولا حجم للتذكر أو الحلم. إنها سيل لا ينقطع عن الحركة والديمومة، كثيرة التغير والتبدل لا تثبت على حال. فلو طبقنا عليها الدراسة التجريبية لقضينا على طبيعتها....وتكون النتائج أيضا غير دقيقة. بالإضافة إلى أن الحادثة النفسية شديدة التداخل والتشابك، فالإدراك يتداخل مع الإحساس، والذكاء مع الخيال، والانتباه مع الإرادة...كما أنها فريدة من نوعها لا تقبل التكرار، فالحادث النفسي يجري في الزمن النفسي الذي لا ينعكس على نفسه عكس الزمن الفيزيائي. ثم إن النتائج المستخلصة بعد دراستها تكون لها صبغة ذاتية يعوزها التعميم. توصف الحادثة النفسية أيضا بأنها كيفية يمكن وصفها باللغة فقط، ولا يمكن قياسها، فالعواطف والأفراح والأحزان مشاعر تتميز بالكيف لا تقبل الكم أو القياس، وما لا يقاس ليس فيه من العلم شيء زيادة على أنها حادثة باطنية داخلية لا يدركها مباشرة سوى صاحبها، فلا يمكن الإطلاع عليها بالملاحظة الخارجية وهو ما يرفضه العلم. أضف إلى ذلك، أنها شخصية تتعلق بالذات التي تعانيها لا بالذوات الأخرى. هذه الخصائص وغيرها تشكل عقبات أمام تطبيق المنهج التجريبي المعروف في العلوم الطبيعية على الحادثة النفسية
نقد و مناقشة :
لكن ورغم ما قدمه هؤلاء من أدلة وتبريرات، إلا أن الأحكام التي أصدروها تتميز بالتشدد، خاصة إذا علمنا أنهم أرادوا أن يقيسوا علمية علم النفس بمقياس وضع أصلا لقياس علمية العلوم الطبيعية. بالإضافة إلى هذا، بقي هؤلاء سجناء التصور الكلاسيكي عن المنهج التجريبي وما يتصل به من مفاهيم كالملاحظة والتجربة والقياس والحتمية والموضوعية. كما أن الواقع يثبت أن عددا من العلماء قد استطاعوا اقتحام بعض العوائق وتحقيق قدر من الموضوعية بتكييف المنهج التجريبي مع طبيعة الظاهرة المدروسة .
الموقف الثاني :
في المقابل يرى عدد آخر من المفكرين والعلماء أنه يمكن أن تكون الحوادث النفسية موضوعا للدراسة التجريبية، كغيرها من الظواهر الأخرى. ومن المسلمات التي اعتمد عليها هؤلاء أن التقدم الذي أحرزه العلماء في مجال الدراسات النفسية ورغبة الباحثين في تحقيق الدقة والموضوعية، قد مكن علماء النفس من آليات منهجية أكثر ملاءمة لطبيعة الظاهرة النفسية. ويرجع الفضل إلى علماء قدموا خدمات جليلة مهدت لنشأة علم النفس وتطوره. ولعل أبرزهم "فونت " الذي حاول وضع أسس علم النفس التجريبي، وهو الذي أسس أول معمل لعلم النفس في ألمانيا، واتخذ بعد ذلك علم النفس معنى واتجاها جديدا بازدياد عدد علماء النفس الذين تخلوا عن دراسة الخبرة الشعورية بواسطة الاستبطان إلى دراسة السلوك، وقد بدأ الاهتمام الكبير بالدراسة الموضوعية للسلوك بتجارب العالم الفيزيولوجي "بافلوف."، الذي اكتشف ظاهرة المنعكس الشرطي. وفي نفس السياق أسس "جون واطسون" المدرسة السلوكية. وأكد على أن كل دراسة للسلوك الإنساني ينبغي أن تلاحقه في مظاهره الخارجية التي تظهر لنا في صورة (مثير – استجابة) يمكن تتبع الاستجابات التي يرد بها الإنسان على كل مؤثر، ومن ثمة الوصول إلى قوانين تحدد السلوك والى حتمية تتيح إمكانية التنبؤ. ولا يكون ذلك ممكنا إلا بفضل استخدام المنهج الموضوعي الذي يقوم على دراسة الحادثة النفسية وملاحظتها في وجهها الخارجي بقطع النظر عن باطنها الوجداني الشعوري. وفي هذا يقول "واطسون": "إن علم النفس كما يراه السلوكي فرع موضوعي وتجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية، هدفه النظري التنبؤ بالسلوك وضبطه...ويبدو أن الوقت قد حان ليتخلص علم النفس من كل إشارة إلى الشعور". بالإضافة إلى كل هذا فقد أدخل العلماء القياس إلى مجال الدراسات النفسية، كقياس بعض القدرات العقلية أو المهارات الحركية وذلك باستخدام الأجهزة وأدوات خاصة تضمن الموضوعية والدقة في القياس. مثال ذلك : قياس قوة التحمل، أو سرعة التعب، أو مهارة الأصابع، أو نسبة الذكاء...إلخ
نقد و مناقشة :
لكن ورغم هذا، ورغم الأعمال الجبارة التي قام بها علماء النفس ومساهمتها في تطور علم النفس وانفصاله عن الفلسفة تدريجيا. ومع ذلك فلا غنى للباحث الموضوعي من التعرف على الوجه الباطني للحادثة النفسية إذا أراد إكمال معرفته، لأن الحادثة النفسية في أساسها باطنية، كما أن أعمال التجريبيين والسلوكيين لا تعني بأي حال من الأحوال أن علم النفس تجاوز كل العوائق. إذن لا ينبغي المبالغة في اعتبار الحوادث النفسية موضوعا لمعرفة علمية بصورة مطلقة، لأن ذلك يؤدي بنا إلى إزالة طبيعتها الإنسانية
التركيب :
يمكننا القول إذن وتجاوزا للانتقادات الموجهة لكلا الاتجاهين، أنه يمكن أن تكون الحوادث النفسية موضوعا للدراسة العلمية مع مراعاة خصوصيتها، وبالتالي نعتبر علم النفس علما على منواله. فالقول بأن علم النفس لا يمكن أن يتأسس كعلم، بدعوى أنه يدرس ظواهر تفتقر إلى الشروط الأساسية التي يقوم عليها العلم أمر مبالغ فيه. كما أن القول بأنه يمكن أن يكون علما موضوعيا و دقيقا في نتائجه، كدقة نتائج علوم المادة الجامدة أمر لا يخلو من المغالاة. ويمكن القول أن الحوادث النفسية من طبيعة خاصة، تختلف جوهريا عن طبيعة موضوعات العلوم الأخرى، فهي حوادث عناصرها متشابكة متشعبة وهو ما يفسر تعدد المدارس في علم النفس وكذا تعدد المناهج. ولهذا الاعتبار فإن علم النفس جدير بأن يعد من مجموع العلوم من حيث اعتماده الدراسة العلمية أسلوبا في البحث والتقصي.
حل المشكلة :
نستنتج في الأخير هو أن الدراسة التجريبية على الظاهرة النفسية إتضحت معالمها في الفترة المعاصرة كنتيجة للبحوث الأكاديمية التي عنيت بها وكذا المدراس و التخصصات التي انبثقت عنها كعلم النفس السلوكي وعلم النفس التحليلي و المعرفي و كذا المدرسة الشكلية (الجشطاتية) والمدرسة التلفيقية إلا أن إدراك الموضوعية بات أكبر هاجس يواجه الذات الباحثة في هذا المجال نظرا لعلاقة هذه الأخيرة بموضوع الدراسة .و عليه مازالت الأبحاث جاريه لرسالة هذا الأمر و الارتقاء بعلم النفس إلى مصاف
العلوم الطبيعية.
الشيخ هاذي علم النفس ولا التاريخ
ردحذفحطلنا مقالات العنف والتسامح شعبة لغات ارجوك
ردحذف