نص السؤال : هل نتائج الدراسة التجريبية يقينية أم نسبية ؟
طرح المشكلة :
من بين المناهج التي أحدثت تغيرا وتطورا كبيرا في الساحة العلمية المنهج التجريبي، الذي يمكننا من اكتشاف القوانين التي تحكم الظواهر، وإذا كانت الغاية منه هي الوصول إلى نتائج علمية دقيقة، فلقد شكل موضوع النتائج المحصل عليها جراء الدراسة التجريبية محورا للبحث والنقاش في الأوساط الفكرية والفلسفية والعلمية، وظهر بذلك اتجاهان يؤكد الأول منهما على مطلقية نتائج الدراسة التجريبية ويقينيتها، بينما ذهب أنصار الاتجاه الثاني إلى نقيض ذلك تماما حيث يصرون على نسبية واحتمالية تلك النتائج. من هنا ولرفع التعارض والجدال بين الموقفين حق لنا أن نتساءل : هل توصف نتائج العلوم التجريبية بالدقة واليقين والمطلقية أم بالنسبية والاحتمالية والتقريبية؟
عرض منطق الأطروحة :
يرى عدد من الفلاسفة والعلماء أمثال: "جون ستيوارت مل" و"كلود برنار" أن النتائج التجريبية تعبر عن الحقائق العلمية الأكثر دقة وموضوعية، أي أن النتائج المتوصل إليها عن طريق المنهج التجريبي قوانين دقيقة ويقينية، وهذا نتيجة اعتمادها المقياس الصارم، الذي لا يقرر حقيقة إلا إذا أكدتها وبرهنت عليها التجربة، كما أن النتائج التجريبية تصاغ في أحكام كمية رياضية حتى تبتعد عن الوصف والكيفيات التي تثير الالتباس والغموض، ومن ثمة تضمن الدقة والاختصار واليقين، وأحسن تعبير عن ذلك ما نجده في النموذج الفيزيائي وما حققه من يقين في منهجه ولغته ونتائجه فصار من أرقى العلوم دقة، وكل هذه الخصوصية في النتائج التجريبية هي التي فتحت للإنسان آفاق المستقبل، وإمكانية التنبؤ بالظواهر قبل حدوثها، واستثمار تلك النتائج في واقعه وما ترتب عن كل ذلك من أبعاد حضارية وتقنية ومعرفية لم تخطر أبدا على عقل الإنسان. ومن بين الأدلة التي اعتمد عليها أنصار هذا الاتجاه لتبرير موقفهم أيضا، أن الأساس الذي تستند وتقوم عيه النتائج والقوانين العلمية هو مبدأ الحتمية المطلق الذي يؤكد أن لكل ظاهرة أسباب وشروط متى توفرت تحققت نفس النتائج، ذلك لان العلم كما يؤكد كلود برنار قائلا: "إن العلم حتمي بالبداهة، وهو يضع الحتمية موضع البديهيات، فلولاها لما أمكن أن يكون" ومن ثمة فهو يرفض أن تكون هناك ظاهرة علمية لا ترتبط دائما بنفس الشروط، وهذا ما يتضح من خلال قوله: "إن ظاهرة لا يمكن تحديد شروط وجودها لا تعدو أن تكون إنكارا للعلم" لذلك فهو يجعل الحتمية أساس كل العلوم التجريبية وتخضع لها جميع الظواهر جامدة كانت أم حية. يقول كلود برنار: "تتحدد شروط وجود كل ظاهرة تحديدا مطلقا في جميع الكائنات سواء أكانت أجساما حية أو جامدة". ووفقا لمبدأ الحتمية المطلق يمكننا التنبؤ حينها بحدوث الظواهر وقوانينها وهي الغاية التي يسعى إليها العلم. نفس الرأي ذهب إليه بوانكاريه الذي يؤكد على أن العلم يخضع لمبدأ الحتمية المطلق وهو ما يجعل الحقائق المتوصل إليها تتصف بالدقة واليقين، لأن العالم الذي لا تسوده الحتمية حسب بوانكاريه هو عالم موصد في وجه العلماء، لأن العلم حتمي بالبداهة. وهو ما جعل "لابلاص" يضع هو الآخر كامل ثقته في مبدأ الحتمية ويؤكد بثبات الشروط والأسباب وبالتالي الثقة التامة في المنهج التجريبي وما ينجم عنه من نتائج وقوانين إذ يقول: "يجب أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة وسببا لحالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة"
النقد :
لكن ورغم ما قدمه أنصار هذا الاتجاه من أدلة وحجج لتبرير موقفهم، إلا أن الملاحظ أن هذا الموقف المتعصب للنتائج التجريبية والناظر إليها على أنها حقائق دقيقة ونهائية، هو موقف لا يتناسب مع الروح العلمية المعاصرة التي تقوم على أساس الإيمان بمبدأ النسبية، لأن علمنا ليس كاملا ولا تاما، بل يمدنا فقط بحقائق تقريبية، من جهة أخرى نجد أن تاريخ العلم لا يعبر عن حقائق مطلقة وثابتة، بل يعبر عن أخطاء أولى وجب النظر إليها وإعادة تصحيحها حسب رأي "غاستون باشلار" وفق مقاربات جديدة وباستمرار، وكل هذا يثبت أن نتائج الدراسة التجريبية نسبية وتقريبية. كما أن معطيات العلم في القرن العشرين وما أحدثته من ثورة على المفاهيم السابقة، ابتداء برفض مبدأ الحتمية المطلق والنتائج المطلقة واليقينية والثابتة، والأخذ بمبدأ الاحتمال والنسبية في الدراسة العلمية ونتائجها، والابتعاد عن هالة المطلق والنتائج اليقينية وبالتالي توجيه البحث العلمي إلى فهم نظام الأشياء واستخلاص النتائج بقدر الإمكان. لأن العلم مجال مفتوح ولغز متجدد باستمرار
عرض نقيض الأطروحة :
لهذا ظهر اتجاه آخر يرى أنصاره أن الباحث في العلوم التجريبية يبدأ دراسته من ملاحظة الظواهر، ثم يتجه إلى تحليل المركب منها، وما يواجهه من مشكلات، ثم يعمل على وضع تعليلات مؤقتة (افتراض) لها، ثم يسير إلى التجربة للتحقق من الحادثة المدروسة، والتأكد منها، قصد الوصول إلى تفسير لها، وصياغتها في شكل قانون عام يعبر عن الحادثة ويفسرها، فالقانون هو محصلة العلم ونتيجة دراسته، لكن هذه النتائج التجريبية وحقائقها ليست يقينية بل تبقى نسبية تقريبية فقط، فهي نتائج احتمالية وغير مضمونة الدقة، وهو ما أكده أنصار الفيزياء المعاصرة الذين اعتمدوا بدورهم على أدلة وحجج لتبرير موقفهم أهمها: أن النتائج التجريبية تعبر عن علاقات متشعبة من المستحيل على الباحث التجريبي أن يحيط بها جميعا، أو يجعلها في شكل قانون عام، ومن ناحية أخرى نجد المعايير التي تقاس بها الظواهر الطبيعية ليست ثابتة ولا يقينية لأنها معرضة لعوامل وتغيرات تطرأ عليها، مما يفقدها دقة النتائج وتصير النتائج مجرد احتمالات ترجيحية. لهذا يؤكد أصحاب هذا الموقف أن منطلقات الدراسة الاستقرائية غير المؤكدة، وغير المعللة علميا، ولا سند تجريبي لها، هو الذي يبرر نسبية النتائج، والشك فيها أحيانا، لأن صدق الجزء لا يبرر بالضرورة صدق الحكم على الكل. يقول "كلود برنار": "يجب أن نكون حقيقة مقتنعين بأننا لا نمتلك العلاقات الضرورية الموجودة بين الأشياء إلا بوجه تقريبي كثيرا أو قليلا، وأن النظريات التي نمتلكها هي أبعد من أن تمثل حقائق ثابتة". ثم إن نتائج العلم تتأسس في مجملها على مبدأ الحتمية واطراد الظواهر الذي يعني السير وفق قوانين عامة ثابتة، ملزمة لحدوث الظواهر، رغم أن كل الدلائل في الواقع تؤكد أن عالم الأشياء الحسية متغير باستمرار، ونسبي، ولا ثبات له، وهذا يعني أن ما نصل إليه من نتائج علمية تبقى نسبية لا يمكن تعميمها، ولا الجزم بأنها تبقى كذلك، لهذا يقول "غاستون باشلار": "إن العلم الحديث هو في حقيقته معرفة تقريبية". حيث يرى "غاستون باشلار" أيضا أن العقل العلمي يصير متطورا باستمرار، يمارس الهدم والنفي ليعود إلى البناء والتأسيس من جديد، وهذا ما رسخته بالفعل: ميكانيكا لكونتم..فيزياء المصفوفات، ميكانيك ديراك...وغيرها من الأبحاث العلمية الحديثة والمعاصرة التي تؤكد حقيقة أن النتائج التجريبية نسبية تقريبية فقط. ومن أنصار هذا الموقف أيضا "ماكس بلانك" الذي أكد أن الذرة تصدر الطاقة في شكل صدمات غير منتظمة يصعب معها التنبؤ الدقيق وفق مبدأ الحتمية مما يجعل المعارف العلمية تقريبية نسبية وليست مطلقة ثابتة، بالإضافة إلى قصور أدوات الباحث المستخدمة في المنهج التجريبي خاصة إذا كنا بصدد دراسة الظواهر المتناهية في الصغر أو ما يعرف بعالم "الميكروفيزياء" أو "الفيزياء المجهرية"، فحركة الجسيمات لا يمكن ضبطها بأدوات القياس نظرا لرهافتها، وهذا ما يؤدي إلى نتائج تقريبية غير دقيقة، لذلك نجد العالم الفيزيائي "هيزنبرغ" سلم بذلك عندما قال: "كلما تم التدقيق في موقع الجسم كلما غيرت هذه الدقة كمية حركته، وبالنتيجة سرعته، و كلما تم التدقيق في قياس حركته كلما التبس موقعه، لذلك تصعب معرفة موقعه وسرعته في زمن لاحق" وربما هذا الذي جعله يؤكد على أن: "الخلاف بين الفيزياء المعاصرة أي التي تعتمد على مبدأ اللاحتمية والفيزياء الكلاسيكية التي تعتمد على الحتمية يمكن معرفته من خلال ما يطلق عليه علاقة الارتياب.."
النقد :
لكن ورغم ما قدمه أنصار النزعة المعاصرة من حجج لتبرير موقفهم القائل بالنسبية، إلا أنه لا يمكن التسليم بصحة رأيهم مطلقا. فالواقع وتاريخ العلم يثبتان ذلك.ألا يكون إنكار مبدأ الحتمية المطلق إنكار للعلم ودقة نتائجه؟ ألا يكون هذا عائقا أمام تحقيق غاية العلم وهي التنبؤ؟
التركيب :
إن العلوم المعاصرة اليوم لجأت إلى الاعتماد على مبدأ الاحتمالات، خاصة بعد التطور الذي خضعت له الفيزياء المعاصرة، لذلك اعتمد على هذا المبدأ في عالم الميكروفيزياء، أو عالم الظواهر المتناهية في الصغر، لأنها لا تقبل مبدأ الحتمية المطلقة، لكن هذا لا يمنع من تطبيق هذا المبدأ في عالم الماكروفيزياء أو عالم الظواهر المتناهية في الكبر، والواقع العلمي يثبت ذلك
الخاتمة :
ختاما و مما سبق نستنتج أن أي بحث علمي، لا يخرج عن نطاق التسليم بخضوع الظواهر لمبدأ الحتمية و التطور الحاصل في الفيزياء المعاصرة لا يرفض فكرة الحتمية ويهدمها ، لأنها مبدأ علمي تقوم عليه الدراسات التجريبية يمكننا من الوصول إلى نتائج علمية، بل يرفض التسليم بأنها مطلقة وتؤدي إلى نتائج مطلقة لا تتغير، وهذا ما أكده "لانجفان" عندما قال: "إن نظريات الذرة في الفيزياء الحديثة لا تهدم مبدأ الحتمية، وإنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي"
استاذ نتائج العلوم التجريبية هي نفسها الحتمية !!
ردحذف